Cute Running Grey Cat

الأحد، 16 ديسمبر 2012

الأبسيق..




لم يكن مجرد صبح هادئ الضوء فقط!! 
كانت الشمس في مقدمة السماء .. 
ملثَّمة تخاف الظهور..المكانُ كعادته خالٍ من الحداثة ..
 إلا من بعض البقايا ومخلفات العمل اليدوي..
 طاعنٌ في السن ضعيف النظر..لا يميِّز كعادته بين المرأة والرجل من بعيد..وكثيراً ما يكيل الشتائم الفاحشة لأخيه حين يأتيه ، ويضحك عندما يتفاجأ بأن الذي جاءه هي فتاة..
)
عشوشة) بنت العشرين وهي تحمل آنية الفطور..عندما يضحك يبدو فمه خالياً لا تسكنه إلا سنٌ واحدة..وسوداء..المكان الذي يستظله ؛ هادئ..وعلى الأرض حوله أثار المكنسة يرسم أقواساً على الرمل الأصفر..فقد اعتادوا هناك أن يكنسوا الأرض عند الصباح..أو يرشوا الماء على المداخل للبَرَكة .. أو كما ظنُّوا..
تسمع في البيوت المجاورة أصوات الماعز..وتنبعث من كُوَى بعض المطابخ رائحة القهوة المغلية .. أو رائحة البصل حين الطبيخ..كان الظل واسعاً ..والأشياء كلها تقليدية..زير الماء الملفوف بالخيش..سَرْجُ الدابة وعليه مخلاة من الشعر..الفروة المعلقة على صاري الراكوبة..الصفائح المربوطة في الأركان ليبيض فيها الحمام..المشلعيب المتأرحج يحمل تلك الحلَّة السوداء..ضفيرة السعف الكبيرة الملفوفة التي تنتظر الصبغة..الديك المربوط..القَرْعَةُ الكبيرة الملونة المعلقة في السقف..العصا المتكئة على الجدار..ثم ....و....و....كانت السعفات تئن تحت ضربات ذلك العجوز ..مبلولة في الماء منذ الأمس حتى اسودَّ لونها..يدخل يده في الإناء فتخرج ممسكة بالسعف .. يضعه على (التُلُكيق) ويهوي عليه طارقاً بـ(البرجمندي)
..يتليَّف السعف..يتقطر ماؤه .. يبكي أنَّة الضرب..فقد كان على (دومته) سعيداً يلاعب الرياح ويشاهد الناس من علٍّ..في النهاية..العجوز حوله كومٌ من السعف المدقوق..تأتي تلك المرأة كعادتها لتساعده في تمشيط السعف .. وجعله سبيباً قبل أن يجف..كان يغازلها أحيانا..والله زمان يا فاطنه !!فقد عاشا السنوات وأنجبا .. الآن شاخا معاً..يتناول من السعف ويقتسمه على يديه المصبوغتين ويبصق فيهما ثم (يَفْتُلْ)
..ويتبادلا حديث الذكريات..ويعملا بجدٍ..والحبل يخرج من بين يديه..ويسترسل على طول الحديث..فيصير أمتاراً ..ثم أمتاراً..ثم أمتاراً أخرى
...
إلخ..قبل نهاية الحبل ؛ يزدحم المكان :بقايا السعف..الكتاكيت المتعثرة في الخيوط..الثرثرة..ملفوظ التمباك المبعثر كالخنافس..النمل على آنية الفطور..الصحون عليها (درب الأصابع) ..وهكذا..ويمتد الحبل .. وينتشر في الجوار
ويكتمل ..يُلفُّ..ويُطْوَى..ويعود للماء مرَّةً أخرى .. كأنَّما منها وإليها مصيره..بعد ثلاثة أيام :يخرج من الماء أسْوَداً متخمراً برائحة كأنما عرديب..يتجمع الصغار ليشاهدوا (برم الحبل) .. وهو يتلوى ويضرب الأرض.. ويصارح الأكياس وهوام الأرض الملتفة في (شُمْشَامِه) كان مربوطاً أيضاً بصاري الراكوبة (الكَرِّقة) .. وطرفه الآخر في يد العجوز على بمسافة تتجاوز العشرين باعاً ببضع..يتلوى الحبل ويصنع في الهواء أمواجاً ليعبِّر عن انتصار ذلك العجوز..فقد أنجز رغم سِنِّه هذه الأمتار الطويلة من الحبل..كان يردد بعض أغنيات زمانه حين يبرم وهو يحرك تلك العصا المربوطة بطرف الحبل كالمروحة التي تَشْدَهُ بدورانها الصغار الضاحكين..وعلى الرمل خلفه أثار أقدامة المزَحْزِحَة .. مما يوحي بأن الحبل يقصر قليلاً حين برمه..وينز الماء..كانت (الحمير) تتوجس حين يتلوى الحبل قاطعاً عليها الطريق..تحرك أذنيها انشداهاً
وتُسْقِطُ أصحابها على شاكلة :

أتى ثُعالةَ يوماً في الضواحي حمارُ .. 
قال بالأمس سرنا وسار الكبار 
..فطرحت مولاي أرضاً ؛ فهل في ذلك عار ؟؟ 
!فقال : لا لا يا حمااار...
اللهم لم تكن إلا أمتاراً من الحبل تنافس النايلون..لم تكن في ذلك الوقت (حبال بناني) معروفة..ولا سراير الخشب الفاخرة والاستيل والطليانية..كانت عناقريباً مُعَوَّجة السيقان .. مرتخية الحبال ..وبنابراً .. وحنقوقاً و ..... و .......و .......على طرف السوق يجلس العجوز ويفاخر الناس بحبله..ينادي :قرشين ونص الأبسيقة..الجوز أربعة قروش..كانت الدنيا بخير ..وكان السعف فيما يبدو أطول من الآن..الدوم يلد الحنقوق..النخيل والأشميق..الحلفا وعيدان القمح والهَسَدْ..التجارة كاسبة..وهذا العجوز أكثر شباباً..وفاطنه تتدفق جمالاً وملاحةً 
..وأنا وأنت لم يكن لنا وجود..أوَ يعودُ؟!!أيها الناس نحن من نفر عمروا الارض حيث ما قطنوا
يذكر المجد كلما ذكروا وهو يعتز حـين يقترنوا
حكموا العدل في الورى زمنا يا ترى هل يعود ذا الزمن
ردد الدهر حسن سيرتهم ما بها حطة ولا درن

شكراً..

هناك تعليقان (2):

  1. ألف مبرووووووووك زينوبا وحمدا لله على السلامة جعلها الله غرة أعينكم
    أبوخالدة

    ردحذف
    الردود
    1. شكراً أبو خالدة على التفاعل والمرور..

      حذف

ضع تعليقك هنا